كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فنظر نظرة في النجوم} إيهامًا لهم أنه يعتمد عليها فيتبعوه.
{فقال إني سقيم} أي: عليل وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خاليًا في بيت الأصنام فيقدر على كسرها. فإن قيل: النظر في علم النجوم غير جائز فكيف قدم إبراهيم عليه السلام عليه وأيضًا لم يكن سقيمًا فكيف أخبرهم بخلاف حاله؟
أجيب عن ذلك: بأنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخاصة لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم؛ لأن قوله: {إني سقيم} على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم، وعلى تقدير تسليم ذلك أجيب بأوجه:
أحدها: أن نظره في النجوم أو في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه الحمى في بعض ساعات الليل والنهار، فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال: {إني سقيم} فجعله عذرًا في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقًا فيما قال؛ لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
ثانيها أنهم كانوا أصحاب النجوم أي: يعلمونها ويقضون بها على أمورهم، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي: في علم النجوم كما تقول: نظر فلان في الفقه أي: في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في عملهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال لهم {إني سقيم} سكنوا إلى قوله، وأما قوله: {إني سقيم} فمعناه سأسقم كقوله تعالى: {إنك ميت} أي: ستموت.
ثالثها: أن نظره في النجوم هو قوله تعالى: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا} إلخ الآيات؛ فكان نظره ليتعرف هذه الكواكب هل هي قديمة أو حادثة وقوله: {إني سقيم} أي: سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل بلوغه.
رابعها: قال ابن زيد: كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مرض إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال: {إني سقيم} أي: هذا السقم واقع لا محالة.
خامسها: أن قوله: {إني سقيم} أي: مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {فلعلك باخع نفسك}.
سادسها: قال الرازي: قال بعضهم: ذلك القول من إبراهيم عليه السلام كذبة وأوردوا فيه حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» قلت: ولبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل؛ إذ فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام فقال ذلك الرجل: فكيف نحكم بكذب الراوي العدل؟ فقلت له: لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل كان من المعلوم بالضرورة أن نسبة الكذب إلى الراوي أولى، ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: {فنظر نظرة في النجوم} أي: نجوم كلامهم ومتفرقات أقوالهم فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال: إنها منجمة أي: مفرقة ومنه نجوم المكاتب والمعنى: أنه لما سمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم فلم يجد عذرًا أحسن من قوله: {إني سقيم} والمراد: أنه لابد من أن يصير سقيمًا كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر إنك مسافر.
ولما قال: {إني سقيم} تولوا عنه كما قال تعالى: {فتولوا عنه} أي: إلى عيدهم {مدبرين} أي: هاربين مخافة العدوى وتركوه وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.
{فراغ} أي: مال في خفية وأصله من روغان الثعلب وهو تردده وعدم ثبوته بمكان ولا يقال: راغ حتى يكون صاحبه مخفيًا لذهابه ومجيئه {إلى آلهتهم} وعندها الطعام {فقال} استهزاء بها {ألا تأكلون} أي: الطعام الذي كان بين أيديهم فلم ينطقوا فقال استهزاء بها أيضًا:
{ما لكم لا تنطقون} فلم تجب.
{فراغ عليهم} أي: مال عليهم مستخفيًا وقوله تعالى: {ضربًا} مصدر واقع موقع الحال أي: فراغ عليهم ضاربًا أو مصدر لفعل، وذلك الفعل حال تقديره فراغ يضرب ضربًا وقوله تعالى: {باليمن} متعلق بضربًا إن لم نجعله مؤكدًا وإلا فبعامله، واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر، وأن يراد بها القوة واقتصر عليه الجلال المحلي فالباء على هذا للحال أي: متلبسًا بالقوة وأن يراد بها الحلف وفاء بقوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم}.
والباء على هذا للسبب وعدى راغ الثاني بعلى لما كان مع الضرب المستولي من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم، وأتى بضمير العقلاء في قوله تعالى: {عليهم ضربًا} على ظن عبدتها أنها كالعقلاء ثم إنه عليه السلام كسرها فبلغ قومه من ورائه ذلك.
{فأقبلوا إليه} أي: إلى إبراهيم بعدما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة {يزفون} أي: يسرعون المشي، وقرأ حمزة بضم الياء على البناء للمفعول من أزفه أي: يحملون على الزفيف، والباقون بفتحها من زف يزف فقالوا: نحن نعبدها وأنت تكسرها.
{قال} لهم توبيخًا {أتعبدون ما تنحتون} أي: من الحجارة وغيرها أصنامًا.
{والله خلقكم وما تعملون} أي: نحتكم ومنحوتكم فاعبدوه وحده.
تنبيه:
دلت هذه الآية على مذهب الأشعرية وهو أن فعل العبد مخلوق لله عز وجل وهو الحق وذلك؛ لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله تعالى: {وما تعملون} معناه وعملكم وعلى هذا فيصير معنى الآية: والله خلقكم وخلق عملكم.
ولما أورد عليهم الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء لئلا يظهر للعامة عجزهم بأن:
{قالوا ابنوا له بنيانًا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: بنوا حائطًا من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعًا وعرضه عشرون ذراعًا وملؤوه نارًا فطرحوه فيها وذلك هو قوله تعالى: {فألقوه في الجحيم} وهي النار العظيمة قال الزجاج: كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم.
{فأرادوا به كيدًا} أي: شرًا بإلقائه في النار لتهلكه {فجعلناهم الأسفلين} أي: المقهورين الأذلين بإبطال كيدهم وجعلنا ذلك برهانًا نيرًا على علو شأنه حيث جعلنا النار عليه بردًا وسلامًا وخرج منها سالمًا.
{وقال إني ذاهب إلى ربي} أي: إلى حيث أمرني ربي ونظيره قوله تعالى: {وقال إني مهاجر إلى ربي}.
أي: مهاجر إليه من دار الكفر {سيهدين} أي: إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي وهو الشام، وإنما بتّ القول لسبق وعده ولفرط توكله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث قال: {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} فلذلك ذكر بصيغة التوقع.
ولما وصل إلى الأرض المقدسة قال: {رب هب لي من الصالحين} أي: هب لي ولدًا صالحًا يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة؛ لأن لفظ هب غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيًا}.
قال الله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} أي: ذي حلم كثير في كبره غلام في صغره، ففيه بشارة بأنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سن يوصف بالحلم وأي حلم أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
وقيل: ما وصف الله تعالى نبيًا بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما الصلاة والسلام وحالتهما المذكورة تشهد عليه.
{فلما بلغ معه السعي} أي: أن يسعى معه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: بلغ معه السعي إي المشي معه إلى الجبل وقال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما شب حتى بلغ سعيه بسعي إبراهيم والمعنى: بلغ أن يتصرف معه وأن يعينه في عمله، وقال الكلبي: يعني العمل لله تعالى وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبع سنين.
تنبيه:
معه متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قائلًا قال: مع من بلغ السعي؟ فقيل: مع أبيه ولا يجوز تعلقه ببلغ؛ لأنه يقتضي بلوغهما معًا حد السعي ولا يجوز تعلقه بالسعي؛ لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه.
وقوله تعالى: {قال يا بني إني أرى} أي: رأيت {في المنام أني أذبحك} يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره، وقيل: إنه رأى في ليلة التروية في منامه كأن قائلًا يقول له: إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله أم من الشيطان؟ فمن ثم سمى يوم التروية فلما أمسى رأى أيضًا مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عرفة ثم رأي مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر، وهذا قول أكثر المفسرين، وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة وعلى هذا فتقدير اللفظ: أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك.
تنبيه:
اختلف في الذبيح فقيل: هو إسحق عليه السلام وبه قال: عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وغيرهم، وقيل: إسماعيل وبه قال ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وغيرهم وهو الأظهر كما قاله البيضاوي؛ لأنه الذي وهب له أثر الهجرة ولأن البشارة بإسحق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ولقوله صلى الله عليه وسلم «أنا ابن الذبيحين». وقال له أعرابي: يا ابن الذبيحين فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر إن سهل الله أمرها ليذبحن أحد ولده فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا له: افد ابنك بمائة من الإبل ولذلك سنت الإبل مائة والذبيح الثاني إسماعيل، ونقل الأصمعي أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عقلك ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة.
وقد وصف الله تعالى إسماعيل عليه السلام بالصبر دون إسحاق عليه السلام في قوله تعالى: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين}.
وهو صبره على الذبح ووصفه أيضًا بصدق الوعد فقال: {إنه كان صادق الوعد}.
لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فقال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
وقال تعالى: {فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحاق يعقوب}.
فكيف تقع البشارة بإسحاق وأنه سيولد له يعقوب ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له؟ هذا يناقض البشارة المتقدمة.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه السلام وعليه جمهور العلماء من الخلف والسلف قال ابن عباس: وزعمت اليهود أنه إسحق عليه السلام وكذبت اليهود وما روي أنه صلى الله عليه وسلم «سئل أي النسب أشرف؟ فقال: يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله» فالصحيح أنه قال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم والزوائد من الراوي، وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت وقال محمد بن إسحاق: كان إبراهيم عليه السلام إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى بلغ إسماعيل معه السعي أمر في المنام أن يذبحه قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات فلما تيقن ذلك قال لابنه {فانظر ماذا ترى} من الرأي: فشاوره ليأنس بالذبح وينقاد للأمر به قال ابن إسحق وغيره ولما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق إلى هذا الشعب نحتطب فلما خلا إبراهيم بابنه في الشعب شعب ثبير أخبره بما أمر.
{قال يا أبت افعل ما تؤمر} أي: ما أمرت به {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} أي: على ذلك، وقرأ {يا بني} حفص بفتح الياء، والباقون بالكسر، وقرأ {إني أرى} نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون، وقرأ {ماذا ترى} حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء، والباقون بفتحهما والحكمة في مشاورته في هذا الأمر ليظهر له صبره في طاعة الله تعالى فيكون فيه قرة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحكمة إلى هذا الحد العظيم والصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدنيا.
وقرأ {يا أبت} ابن عامر في الوصل بفتح التاء، وكسرها الباقون والتاء عوض عن ياء الإضافة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وابن عامر، ووقف الباقون بالتاء والرسم بالتاء وفتح ياء ستجدني في الوصل نافع، وسكنها الباقون.